إبراهيم عليه السلام ومقامات العبودية.
لبّيكَ اللهمَّ لبّيكَ
(الشيخ حامد العلي)
*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.
دخل اليوم العشر الأُوَل من ذي الحجة التي هي أحبُّ الأيـّام إلى الله تعالى ، وفي الحديث : ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام ، يعني أيام العشر ، قالوا : يا رسول الله ، ولا الجهاد في سبيل الله ، قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلاّ رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ) رواه البخاري
وذلك لأنَّ فيها تقع أمّهـات العبادات ، وشريعة الحـج ، والحـجُّ إنما هو السيـر على خطى خليل الله إبراهيم عليه السلام ، التي إقتفـى أثـرها خليلُ الله محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو من أول خطوة يخطوها الحاج ، إستجابة لنداء إبراهيم عليه السلام إذ أذَّن في الناس لتهوى أفئدتهم إلى بيت الله الذي بناه ، قال تعالى ( وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كلِّ ضامـر يأتين من كلِّ فج عميق )
قال الإمام ابن كثير رحمه الله : ( فذُكـر أنه قال : يا ربّ كيف أبلغ الناس ، وصوتي لا ينفذهم ؟! فقال : ناد وعلينا البلاغ ، فقام على مقامه ، وقيل على الحجر ، وقيل على الصفا ، وقيل على أبي قبيس ، وقال : يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجُّوه ، فيقال إنّ الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأسمع من في الأرحام ، والأصلاب ، وأجابه كلُّ شيء سمعه من حجر ، ومدر ، وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : لبيك اللهم لبيك ، هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف ، والله أعلـم ) .
ولما كان الحجُّ هو ترجمة لعمـق الأمـّة الجغرافي ، إذ هـو المؤتمر الوحيد الذي يجتمع فيه أهل التوحيـد من كلّ فـجّ عميق في مكـان واحـد ، ناسب أن يُربـط بعمـق الأمـّة التاريخي ، وهـو خُطى إبراهيم عليه السلام ، أبي الأنبيـاء _ أكثـر الأنبياء _ ليتشكّل من هذين الرابطيـن العظيـمين ، البعـدان الرئيسان لهذه الأمَّة العظيمـة التي بُعثت جامعـةً لميراث كـلِّ الرسالات ، وأُمرت بإكمـال مسيرة الرسل بالجهـاد إلى نهايـة التاريـخ .
وهذا هـو البُعـد الأول ، أمـّا الثاني فهـو أنها أمـَّة ذات رسالة عالميــة ، وهي وحـدها تملك الهدى ، وكلُّ من في الأرض غيـرها على الضلال ، وهي وحدها في النـور ، وغيرها في الظلمـات ، ولهذا قال تعالـى ( أُخـرجت للناس ) أي أخرجت بالعقيدة الهادية للناس جميعا ، لتعلو بها على الأرض جميـعا ، متجاوزة كلَّ الحدود الجغرافيّة ، والعنصريّة ، و القوميّة ، والعرقيّة .. إلخ .
وخليل الله ونبيه إبراهيم بجهاده العظيم ، هـو مفصـل التاريخ الأعظـم ، ذلك أن التاريخ عندنـا يتمحور حول حقب الأنبيـاء فحسب ، وتدور رحاه حول الصراع بين الحقّ الذي جاءت به الأنبياء ، والباطـل الذي مع أعدائهم ، ثم يتكـرر كل عصر في صور شتى ، وحقيقـة واحـدة ، كما قال تعالى : ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ، أتواصوا به بل هم قوم طاغون ).
وبداية هذا الصراع الذي هو حقيقة التاريخ العظمـى ، في حقبـة نوح عليه السلام ، ومفصله الأوسط في حقبة إبراهيم عليه السلام ، وخاتمته ونهاية التاريـخ هي التي نحن فيها ، بل في آخـرها ، وهـي حقبة نبيّنا محمّد عليه الصلاة والسلام ، خاتم النبييّن وسيّد المرسلـين .
فإبراهيم عليه السلام ، هـو مجـدّد الرسالات ، ولهذا يبدأ الله بذكره بعد حقبة نوح والنبيين من بعده ، عندما يذكر موكب الرسالات ، كما قال تعالى : ( إنّا أوحينا إليك ، كما أوحينا إلى نوحٍ والنبييّن من بعده ، وأوحينا إلى إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط وعيسى ، وأيوب ، ويونس ، وهارون ، وسليمان ، وآتينا داود زبورا )
وقال الحق سبحانه : ( شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا ، والذي أوحينا إليك ، وما وصّينا به ابراهيم ، وموسى ، وعيسى ، أن أقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه ، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ، الله يجتبي إليه من يشاء ، ويهدي إليه من ينيب )
ويبدأ الله تعالى بذكره عندما يذكـر الإيمان بما أنزل على الأنبياء ، كما قال تعالى : ( قولوا آمنا بالله ، وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى ابراهيم ، واسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط ، وما أوتي موسى ، وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم ، لا نفرق بين أحد منهم ، ونحن له مسلمون ، فان آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ، وإن تلوا فإنما هم في شقاق ) .
إذ كان هو عليه السلام أبوهم الأكبـر ، ومعلم الخير الأعظـم قبل محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال تعالى معظِّما شأنه ، مبجّـلاً أمره ، منوِّهـا بجاهـه العظيم عند ربـّه : ( إنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، شاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ ، وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ )
ولهذا كانت رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم ، إتباع لملّة إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى بعد الآيات السابقات في أواخـر سورة النحـل : ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .
وقال تعالى : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ، واتبع ملَّة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا ) .
وإنما استحق خليل الله إبراهيم عليه السلام كلَّ هذا من الله تعالى ، لأنـّه قام بأربعـة مقامـات هي أعظـم مقامات العبودية لربّ العالمـين :
أحدهـا تحطيمه الجاهلية المتمثلة في عصره بالأصنام ، ومواجهته لقومه الكفـار وحيداً ، متوكـلا على الله وحـده ، وصبـره على ذلك حتى حـرقوه في النـار ، فجعلها الله بردا وسلامـا عليه.
والثاني : جهاده العظيم في مواجهة الطاغيـة النمرود بن كنعان بن كوش ، وكان أحد ملوك الدنيا بأسرها ، فإنه قد ملك الدنيا فيمـا ذكروا أربعة : مؤمنان ، وكافران ، فالمؤمنان ذو القرنين ، وسليمان ، والكافران النمرود ، وبختنصر ، وكان النمرود قد طغى مستمرا في ملكه أربعمائة سنـة ، فواجهـه إبراهيم عليه السلام بالحـقّ وحـده ، حتى قطع حجّـته ، فأذلَّ طغيانـه .
والثالث : قيامه بالتوحيـد الكامل ، بالخضوع التام لطاعة ربه ، حتى أمر بذبح ولده ، فإستجـاب ، وتلَّه للجبين ، ففداه الله بذبح عظيـم ،
ولهذا قال تعالى عنه :( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ، وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )
الرابع : براءته من كلِّ من ناقض التوحيد ، حتى تبـرّأ من أبيه لما تبيّن له أنه عدوُّ لله تعالى ، كما قال تعالى : ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّه عَدُوٌ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إنَّ إبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ).
وقد قام بهذه المقامات كلُّها وليس في الأرض موحدا سواه _ وزوجته _ ثم آمن له لوط عليه الســلام ، فأكرمـه الله بالنبـُّوة ببركة دعوة إبراهيـم عليه السـلام ، كما كان خير النبييّن محمد صلى الله عليه وسلم إستجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام.
ذلك أنـَّه كلَّما كان جـاه العابد لله أرفـع عند الله ، كان بركـته على غيـره أعظـم .
ولهذا والله أعلم اختصَّ الله الخليـل برفعه قواعد البيت العتيق ، وأذانه في الناس بالحجِّ ، حتى إذا وصل كلُّ حاج إلى حيث دعاه إبراهيم عليه السلام ، إلى مركـز التوحيـد في الأرض كلٌها ، صلَّى ركعتيـن وراء مقام إبراهيـم ، وقد أبقى الله تعالى أثـرَ قدمـيه الشريفتـين ، أمام الكعبـة ، ليراه كلُّ ملبِّ ، فيتذكَّـر مقامات الخليل عليه السلام ، ويأتسي بحياته المليئة بالجهـاد من أجـل العقيـدة .
فيكتب ذلك كلَّه في ميزان أعمال ذلك النبيِّ العظيم ، الذي كان أمّـة في رجـل ، وأحيا الله به موكـب الرسالة ، وجـدَّد به دين التوحيـد.
وجازاه أعظـم الجزاء على جهاد العظيم ، أن جعـل النبوَّة محصورة في ذريـّته عليه السلام إلى آخـر الزمان ، وآخـرهـم خاتم الأنبياء ، سيد ولد آدم محمّد صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً .
ولهذا فإن الحـاجّ الملبّي لربـّه بالتوحيـد ، ( لبّيك اللهمّ لبّيـك ) الذي يسير على خطى إبراهيم عليه السلام ، حريُّ به أن يتذكَّـر مقاماته العظيمة ، فيقيم بين مناسك الحج ، ومقاصدهـا علاقـة ، كعلاقـة الروح بالجسـد .
فيعلن بتوحيده التمرُّد على جاهلية العصر المتمثلة في كلِّ ما يناقض دين الإسلام ، ويصـدع بمواجهـة طواغيت العصـر الذين طغوا في البلاد ، وأكثـروا فيها الفسـاد ، وتعدوا ذلك إلى إفساد الدين ، وتلبيس الحقِّ بالباطل.
كما يعـلن الإستسلام التـامّ لشريعة الله وحده ، والكفر بما سواها من مناهج ، وشرائع ، وقوانين الجاهليـة.
ويعـزم على الصبـر على هذا الحـقِّ ، ولو كان وحده ، كما كان إبراهيم عليه السلام .
مظهـراً باللسان ، والجوارح ، وبجهـاد النفس ، والمال ، إنتمائـه لركـب المرسلين عبـر التاريخ كلِّه ، إلى محمّد صلى الله عليه وسلم ، متبرّئـا من كلّ أعـدائهـم.
وأنت إذا تأمّلـت مناسك الحج ، وجـدتها كلَّها تدور على هذه المقامات الأربـع ، تؤكِّـدها أصـلاً ، وتفـرِّع عليها كـلَّ تفاصيـل شعائـر الحـج ..ولهذا يرجع الحاجّ بعد حجّه كيوم ولدته أمـُّه ، مكافأة على قيامه بأعظم مقامات العبودية لله تعالى .
غير أنـَّه لما كانت عبادة الحـجّ ، قـد أصابها ما أصـاب غيرها من العبـادات ، من تحوِّلهـا عند كثيـر من المسلمين ، إلى عـادات لا يفقهون ما وراءها من المعاني الجليلة ، والمقاصد العظيـمة ، صار على قلوبهـم بين حجّهـم ، وحِكَمِـهِ ، حجابٌ مستـور ، وحجـرٌ محجـور .
وهذا ونسأل الله تعالى أن يثبـِّتنا على ملة إبراهيـم عليه السلام ، ويرزقنا في هذه الأيـام المباركة ، الهدى ، والعمل الصـالح .
ويرزق أمـتنا العـودة إلى دينـها ، والقيام بجهـادها للرجـوع إلى عزهـا.
والله حسبنا ، عليه توكـلنا ، وعليه فليتوكـل المتوكـلون .
(الشيخ حامد العلي)
*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.
دخل اليوم العشر الأُوَل من ذي الحجة التي هي أحبُّ الأيـّام إلى الله تعالى ، وفي الحديث : ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام ، يعني أيام العشر ، قالوا : يا رسول الله ، ولا الجهاد في سبيل الله ، قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلاّ رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ) رواه البخاري
وذلك لأنَّ فيها تقع أمّهـات العبادات ، وشريعة الحـج ، والحـجُّ إنما هو السيـر على خطى خليل الله إبراهيم عليه السلام ، التي إقتفـى أثـرها خليلُ الله محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو من أول خطوة يخطوها الحاج ، إستجابة لنداء إبراهيم عليه السلام إذ أذَّن في الناس لتهوى أفئدتهم إلى بيت الله الذي بناه ، قال تعالى ( وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كلِّ ضامـر يأتين من كلِّ فج عميق )
قال الإمام ابن كثير رحمه الله : ( فذُكـر أنه قال : يا ربّ كيف أبلغ الناس ، وصوتي لا ينفذهم ؟! فقال : ناد وعلينا البلاغ ، فقام على مقامه ، وقيل على الحجر ، وقيل على الصفا ، وقيل على أبي قبيس ، وقال : يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجُّوه ، فيقال إنّ الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأسمع من في الأرحام ، والأصلاب ، وأجابه كلُّ شيء سمعه من حجر ، ومدر ، وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : لبيك اللهم لبيك ، هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف ، والله أعلـم ) .
ولما كان الحجُّ هو ترجمة لعمـق الأمـّة الجغرافي ، إذ هـو المؤتمر الوحيد الذي يجتمع فيه أهل التوحيـد من كلّ فـجّ عميق في مكـان واحـد ، ناسب أن يُربـط بعمـق الأمـّة التاريخي ، وهـو خُطى إبراهيم عليه السلام ، أبي الأنبيـاء _ أكثـر الأنبياء _ ليتشكّل من هذين الرابطيـن العظيـمين ، البعـدان الرئيسان لهذه الأمَّة العظيمـة التي بُعثت جامعـةً لميراث كـلِّ الرسالات ، وأُمرت بإكمـال مسيرة الرسل بالجهـاد إلى نهايـة التاريـخ .
وهذا هـو البُعـد الأول ، أمـّا الثاني فهـو أنها أمـَّة ذات رسالة عالميــة ، وهي وحـدها تملك الهدى ، وكلُّ من في الأرض غيـرها على الضلال ، وهي وحدها في النـور ، وغيرها في الظلمـات ، ولهذا قال تعالـى ( أُخـرجت للناس ) أي أخرجت بالعقيدة الهادية للناس جميعا ، لتعلو بها على الأرض جميـعا ، متجاوزة كلَّ الحدود الجغرافيّة ، والعنصريّة ، و القوميّة ، والعرقيّة .. إلخ .
وخليل الله ونبيه إبراهيم بجهاده العظيم ، هـو مفصـل التاريخ الأعظـم ، ذلك أن التاريخ عندنـا يتمحور حول حقب الأنبيـاء فحسب ، وتدور رحاه حول الصراع بين الحقّ الذي جاءت به الأنبياء ، والباطـل الذي مع أعدائهم ، ثم يتكـرر كل عصر في صور شتى ، وحقيقـة واحـدة ، كما قال تعالى : ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ، أتواصوا به بل هم قوم طاغون ).
وبداية هذا الصراع الذي هو حقيقة التاريخ العظمـى ، في حقبـة نوح عليه السلام ، ومفصله الأوسط في حقبة إبراهيم عليه السلام ، وخاتمته ونهاية التاريـخ هي التي نحن فيها ، بل في آخـرها ، وهـي حقبة نبيّنا محمّد عليه الصلاة والسلام ، خاتم النبييّن وسيّد المرسلـين .
فإبراهيم عليه السلام ، هـو مجـدّد الرسالات ، ولهذا يبدأ الله بذكره بعد حقبة نوح والنبيين من بعده ، عندما يذكر موكب الرسالات ، كما قال تعالى : ( إنّا أوحينا إليك ، كما أوحينا إلى نوحٍ والنبييّن من بعده ، وأوحينا إلى إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط وعيسى ، وأيوب ، ويونس ، وهارون ، وسليمان ، وآتينا داود زبورا )
وقال الحق سبحانه : ( شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا ، والذي أوحينا إليك ، وما وصّينا به ابراهيم ، وموسى ، وعيسى ، أن أقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه ، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ، الله يجتبي إليه من يشاء ، ويهدي إليه من ينيب )
ويبدأ الله تعالى بذكره عندما يذكـر الإيمان بما أنزل على الأنبياء ، كما قال تعالى : ( قولوا آمنا بالله ، وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى ابراهيم ، واسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط ، وما أوتي موسى ، وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم ، لا نفرق بين أحد منهم ، ونحن له مسلمون ، فان آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ، وإن تلوا فإنما هم في شقاق ) .
إذ كان هو عليه السلام أبوهم الأكبـر ، ومعلم الخير الأعظـم قبل محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال تعالى معظِّما شأنه ، مبجّـلاً أمره ، منوِّهـا بجاهـه العظيم عند ربـّه : ( إنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، شاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ ، وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ )
ولهذا كانت رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم ، إتباع لملّة إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى بعد الآيات السابقات في أواخـر سورة النحـل : ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .
وقال تعالى : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ، واتبع ملَّة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا ) .
وإنما استحق خليل الله إبراهيم عليه السلام كلَّ هذا من الله تعالى ، لأنـّه قام بأربعـة مقامـات هي أعظـم مقامات العبودية لربّ العالمـين :
أحدهـا تحطيمه الجاهلية المتمثلة في عصره بالأصنام ، ومواجهته لقومه الكفـار وحيداً ، متوكـلا على الله وحـده ، وصبـره على ذلك حتى حـرقوه في النـار ، فجعلها الله بردا وسلامـا عليه.
والثاني : جهاده العظيم في مواجهة الطاغيـة النمرود بن كنعان بن كوش ، وكان أحد ملوك الدنيا بأسرها ، فإنه قد ملك الدنيا فيمـا ذكروا أربعة : مؤمنان ، وكافران ، فالمؤمنان ذو القرنين ، وسليمان ، والكافران النمرود ، وبختنصر ، وكان النمرود قد طغى مستمرا في ملكه أربعمائة سنـة ، فواجهـه إبراهيم عليه السلام بالحـقّ وحـده ، حتى قطع حجّـته ، فأذلَّ طغيانـه .
والثالث : قيامه بالتوحيـد الكامل ، بالخضوع التام لطاعة ربه ، حتى أمر بذبح ولده ، فإستجـاب ، وتلَّه للجبين ، ففداه الله بذبح عظيـم ،
ولهذا قال تعالى عنه :( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ، وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )
الرابع : براءته من كلِّ من ناقض التوحيد ، حتى تبـرّأ من أبيه لما تبيّن له أنه عدوُّ لله تعالى ، كما قال تعالى : ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّه عَدُوٌ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إنَّ إبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ).
وقد قام بهذه المقامات كلُّها وليس في الأرض موحدا سواه _ وزوجته _ ثم آمن له لوط عليه الســلام ، فأكرمـه الله بالنبـُّوة ببركة دعوة إبراهيـم عليه السـلام ، كما كان خير النبييّن محمد صلى الله عليه وسلم إستجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام.
ذلك أنـَّه كلَّما كان جـاه العابد لله أرفـع عند الله ، كان بركـته على غيـره أعظـم .
ولهذا والله أعلم اختصَّ الله الخليـل برفعه قواعد البيت العتيق ، وأذانه في الناس بالحجِّ ، حتى إذا وصل كلُّ حاج إلى حيث دعاه إبراهيم عليه السلام ، إلى مركـز التوحيـد في الأرض كلٌها ، صلَّى ركعتيـن وراء مقام إبراهيـم ، وقد أبقى الله تعالى أثـرَ قدمـيه الشريفتـين ، أمام الكعبـة ، ليراه كلُّ ملبِّ ، فيتذكَّـر مقامات الخليل عليه السلام ، ويأتسي بحياته المليئة بالجهـاد من أجـل العقيـدة .
فيكتب ذلك كلَّه في ميزان أعمال ذلك النبيِّ العظيم ، الذي كان أمّـة في رجـل ، وأحيا الله به موكـب الرسالة ، وجـدَّد به دين التوحيـد.
وجازاه أعظـم الجزاء على جهاد العظيم ، أن جعـل النبوَّة محصورة في ذريـّته عليه السلام إلى آخـر الزمان ، وآخـرهـم خاتم الأنبياء ، سيد ولد آدم محمّد صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً .
ولهذا فإن الحـاجّ الملبّي لربـّه بالتوحيـد ، ( لبّيك اللهمّ لبّيـك ) الذي يسير على خطى إبراهيم عليه السلام ، حريُّ به أن يتذكَّـر مقاماته العظيمة ، فيقيم بين مناسك الحج ، ومقاصدهـا علاقـة ، كعلاقـة الروح بالجسـد .
فيعلن بتوحيده التمرُّد على جاهلية العصر المتمثلة في كلِّ ما يناقض دين الإسلام ، ويصـدع بمواجهـة طواغيت العصـر الذين طغوا في البلاد ، وأكثـروا فيها الفسـاد ، وتعدوا ذلك إلى إفساد الدين ، وتلبيس الحقِّ بالباطل.
كما يعـلن الإستسلام التـامّ لشريعة الله وحده ، والكفر بما سواها من مناهج ، وشرائع ، وقوانين الجاهليـة.
ويعـزم على الصبـر على هذا الحـقِّ ، ولو كان وحده ، كما كان إبراهيم عليه السلام .
مظهـراً باللسان ، والجوارح ، وبجهـاد النفس ، والمال ، إنتمائـه لركـب المرسلين عبـر التاريخ كلِّه ، إلى محمّد صلى الله عليه وسلم ، متبرّئـا من كلّ أعـدائهـم.
وأنت إذا تأمّلـت مناسك الحج ، وجـدتها كلَّها تدور على هذه المقامات الأربـع ، تؤكِّـدها أصـلاً ، وتفـرِّع عليها كـلَّ تفاصيـل شعائـر الحـج ..ولهذا يرجع الحاجّ بعد حجّه كيوم ولدته أمـُّه ، مكافأة على قيامه بأعظم مقامات العبودية لله تعالى .
غير أنـَّه لما كانت عبادة الحـجّ ، قـد أصابها ما أصـاب غيرها من العبـادات ، من تحوِّلهـا عند كثيـر من المسلمين ، إلى عـادات لا يفقهون ما وراءها من المعاني الجليلة ، والمقاصد العظيـمة ، صار على قلوبهـم بين حجّهـم ، وحِكَمِـهِ ، حجابٌ مستـور ، وحجـرٌ محجـور .
وهذا ونسأل الله تعالى أن يثبـِّتنا على ملة إبراهيـم عليه السلام ، ويرزقنا في هذه الأيـام المباركة ، الهدى ، والعمل الصـالح .
ويرزق أمـتنا العـودة إلى دينـها ، والقيام بجهـادها للرجـوع إلى عزهـا.
والله حسبنا ، عليه توكـلنا ، وعليه فليتوكـل المتوكـلون .
No comments:
Post a Comment