بقلم: خباب مروان الحمد
&.&.&.&.&.&.&.&.
كثيراً ما نشعر بأعباء الحياة، ومشاغلها ومشاكلها، ولربما تأتينا ساعات لا يحب أحدنا أن يجلس فيها إلاَّ مع نفسه، خصوصاً حينما يشعر بعدم الارتياح في مخالطته للناس، أو وقوع الأذى عليه منهم، أو كثرة الابتلاءات التي تواجهه في حياته، فيكون راغباً بالعزلة، مستأنساً مع نفسه، مبتعداً عن أعين المخلوقين.
ومع تسليمي بأنَّ مخالطة الناس في الأعمال الواجبة شرعا كالصلاة والحج والزكاة، لا سبيل لتركها ألبتة فهي من أركان الدين التي لا يقوم الدين إلاَّ بها، وكذلك فإنَّ مخالطة الناس للدعوة إلى الله أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو مجال العمل أو الوظيفة أو ذهاب المرء لقضاء حوائجه أو حوائج الآخرين التي لا بد منها فلكل ذلك مكانة عالية في الشريعة.
ومن جوانب مخالطة الناس المفيدة: مساعدتهم والصبر عليهم فلذلك أجر جزيل، فعن أبي مسعود عقبة بن عمرو، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال : (حوسب رجل ممن كان قبلكم . فلم يوجد له من الخير شيء . إلا أنه كان يخالط الناس . وكان موسرا . فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر . قال : قال الله عز وجل : نحن أحق بذلك منه . تجاوزوا عنه)([1]).
ولذلك فإنَّ مخالطة الناس والقيام بشؤونهم، والصبر عليهم، ولو حصل منهم على الشخص نوع من الأذى الذي يلحقه، فإنَّ ذلك خير مِمَّن اعتزلهم كليَّة خشية أذاهم، انطلاقاًَ من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْلِمُ إِذَا كَانَ مُخَالِطًا النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنْ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)([2]).
بيد أنَّه من الجميل لطالب العلم أو الداعية أن يكون له وقت طويل في العام يبتعد فيه عن دنيا الناس مطلقاً إلا لواجب شرعي أو حياتي، ويقضي وقته ذاك خالياً مع ربه ومحاسباً لنفسه، فـ:(لابد للعبد من أوقات يَنْفَرِدُ بِهَا بِنَفْسِهِ فِي دُعَائِهِ وَذِكْرِهِ وَصَلَاتِهِ وَتَفَكُّرِهِ وَمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ وَإِصْلَاحِ قَلْبِهِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَشْارَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ فَهَذِهِ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى انْفِرَادِهِ بِنَفْسِهِ ؛ إمَّا فِي بَيْتِهِ ، كَمَا قَالَ طاوس : نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ يَكُفُّ فِيهَا بَصَرَهُ وَلِسَانَهُ ، وَإِمَّا فِي غَيْرِ بَيْتِهِ .
فَاخْتِيَارُ الْمُخَالَطَةِ مُطْلَقًا خَطَأٌ وَاخْتِيَارُ الِانْفِرَادِ مُطْلَقًا خَطَأٌ . وَأَمَّا مِقْدَارُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْ هَذَا وَهَذَا وَمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ خَاصٍّ كَمَا تَقَدَّمَ )([3]).
يقول الإمام الخطابي رحمه الله : (ولسنا نريد - رحمك الله - بهذه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجمعات، وترك حقوقهم في العبادات، وإفشاء السلام ورد التحيات، وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم، وصنائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم، فإنها مستثناة بشرائطها، جارية على سبيلها، ما لم يحل دونها حائل شغل ولا يمنع عنها مانع عذر)([4]).
إذا تقرَّر ذلك، فإنَّ ترك فضول مخالطة الناس الزائدة عن حدها هو السبيل القويم لإصلاح القلب، وارتقاء الروح، وغذاء العقل، وتزكية النفس.
ولذا حبَّذت شريعة الإسلام الاعتكاف في أواخر رمضان، للمسلمين الصائمين؛ وذلك لكي تحلق الروح مع أجواء الإيمان، وتبتعد النفس عن أحاديث الإنسان، وتنقطع العلائق عن الخلائق للتفرغ لعبادة الخالق، ومع هذا فلقد صرنا نلحظ قلَّة المهتمين بإحياء هذه السنَّة المهجورة من أكثر المسلمين.
ولعل مما يعين على عزلة شرعية ما يلي:
(مناجاة الله تعالى والخلوة معه)
وذلك في كل صباح ومساء وترطيب اللسان بذكره، وليكن لك ورد في قيام الليل ابتغاء وجه ربك وشوق المشتاق لرؤيته... فابتعد عن نظر الناس جميعا في عبادتك حتى من أهلك؛ لكي تستشعر حلاوة المناجاة، ولذَّة التعبد، وبرد اليقين، والطمأنينة بعبادة رب العالمين، وتذكَّر حديث السبعة الذين يُظِلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظل إلا ظله وقد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنّ منهم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)([5]).
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا * سر أرقُّ من النسيم إذا سرى
ولعلَّك تشعر بالأنس بالله، وحلاوة الحديث إليه، والانكباب على طاعته، فلعمر الله لا أجمل ولا أحلى ولا أبهى ولا أرقى من ساعات خلوة تناجي بها رب العباد، وتدع الناس وحالهم في حالهم، وتتمثَّل بأبيات من الشعر قالها أحد الصالحين:
دعوني أناجي مولى جليلاً * إذا الليل أرخى عليَّ السدولا
نظرت إليك بقلب ذليل * لأرجو به يا إلهي القبولا
يقول ابن رجب رحمه الله: (وجدتُ أكثرهم لا يقوى على مخالطة الخلق فهو يفر إلى الخلوة ليستأنس بحبيبه ، ولهذا كان أكثرهم يطيل الوحدة .
وقيل لبعضهم : ألا تستوحش ؟ قال : كيف أستوحش وهو يقول : أنا جليس من ذكرني ؟.
وقال آخر : وهل يستوحش مع الله أحد ؟.
وكان يحيى بن معاذ كثير العزلة والانفراد فعاتبه أخوه فقال له : إن كنت من الناس فلا بد لك من الناس، فقال : يحيى : إن كنت من الناس فلا بد لك من الله).
إنَّ خلوتك مع الله، تعطيك قيمة نفسك، وتشعرك بمدى تقصيرك معه سبحانه وتعالى، فأنت تقبل على الناس ولربما تنسى الإقبال على ربك، وتطلب من الناس وتغفل عن الطلب من إلهك، وتتودد للبشر وقد نسيت التودد لربك(الودود)، وتشتكي للخلق أحوالك فلم يفيدوك وتذهب تلاحق الكثيرين منهم وقد يجفونك، وربك تعالى يناديك ويقول لك: (من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ ومن يستغفرني فأغفر له ؟) ونحن جيمعاً غافلون عن ذلك.
يقول الإمام ابن القيم: (إذ استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله، وإذا فرح الناس بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنس الناس بأحبائهم فأنس أنت بالله، وإذا ذهب الناس إلى ملوكهم وكبرائهم يسألونهم الرزق ويتوددون إليهم فتودد أنت إلى الله).
فما أحرانا أن تكون لنا مجالس نخلو بها مع ربنا تبارك وتعالى ، لمزيد من الحسنات، واستغفاراً لربنا حينما نقترف السيئات، وما أجمل ما قاله مسروق الأجدع رحمه الله: (إن المرء لحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها يتذكرُ ذنوبَه ويستغفر منها).
إنَّ من أكبر أسباب صلاح القلب طاعة الله تعالى في السر، حيث لا يراك إلا هو، فلن يقع في قلبك شيء من الرياء والغرور، بل أنت تتذلل بين يديه، وتنكسر إليه، وتخضع وتلجأ إليه، وتستشعر صلاح قلبك بالخلوة بربك،
كما قال حذيفة المرعشي رحمه الله القائل: (إن أطعت الله في السر أصلح قلبك، شئت أم أبيت)!
كم من شخص يصلي؟!
وكم من رجل يحج ويعتمر ويتصدق وينفق؟!
لكنَّ القليل منهم من يجد في نفسه طعم الافتقار إلى الله، والانكسار بين يديه، مع أنَّنا فقراء إليه.
فالله تعالى يقول:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْـحَمِيدُ) [فاطر: 15]. ونبي الله موسى عليه الصلاة والسلام يعترف بذلك أمام ربه ويقول: (رَبِّ إنِّي لِـمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ" [القصص: 24].
وحينما يربط العبد نفسه بربه عبر هذا الطريق، ويعرف أنَّ طريق الافتقار إليه (حقيقة العبوديَّة ولبّها)، فيتذلل العبد إلى ربه ويتودد، لسان حاله:
يا رب عبدك قد أتاك وقد أساء وقد هفا
يكفيه منك حياؤه من سوء ما قد أسلفا
حمل الذنوب على الذنوب الموبقات وأسرفا
وقد استجار بذيل عفوك من عقابك ملحفا
يا رب فاعف وعافه فلأنت أولى من عفا
يتحدث الإمام ابن قيم الجوزية عن بعض العارفين فيقول: (دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن من الدخول حتى جئت باب الذل والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه، وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا معوق فما أن وضعت قدمي على عتبته فإذا هو سبحانه أخذ بيدي وأدخلني عليه)
[1] أخرجه مسلم / المسند الصحيح / كتاب المساقاة /باب فضل إنذار المعسر / حديث رقم 1561.
[2] أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي – واللفظ له - من حديث
ابن عمر، وحسَّنه ابن حجر، وصحَّحه أحمد شاكر والألباني في السلسلة الصحيحة برقم 939.
[3] "مجموع الفتاوى، لابن تيمية: (10/426)
[4] العزلة للإمام الخطابي : ص11،12.
[5] أخرجه البخاري/ الجامع الصحيح /كتاب المحاربين من
أهل الكفر والردة / باب فضل من ترك الفواحش / حديث رقم6338 .
منـــــــقول
شبكة طـــريق الســلف
&.&.&.&.&.&.&.&.
كثيراً ما نشعر بأعباء الحياة، ومشاغلها ومشاكلها، ولربما تأتينا ساعات لا يحب أحدنا أن يجلس فيها إلاَّ مع نفسه، خصوصاً حينما يشعر بعدم الارتياح في مخالطته للناس، أو وقوع الأذى عليه منهم، أو كثرة الابتلاءات التي تواجهه في حياته، فيكون راغباً بالعزلة، مستأنساً مع نفسه، مبتعداً عن أعين المخلوقين.
ومع تسليمي بأنَّ مخالطة الناس في الأعمال الواجبة شرعا كالصلاة والحج والزكاة، لا سبيل لتركها ألبتة فهي من أركان الدين التي لا يقوم الدين إلاَّ بها، وكذلك فإنَّ مخالطة الناس للدعوة إلى الله أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو مجال العمل أو الوظيفة أو ذهاب المرء لقضاء حوائجه أو حوائج الآخرين التي لا بد منها فلكل ذلك مكانة عالية في الشريعة.
ومن جوانب مخالطة الناس المفيدة: مساعدتهم والصبر عليهم فلذلك أجر جزيل، فعن أبي مسعود عقبة بن عمرو، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال : (حوسب رجل ممن كان قبلكم . فلم يوجد له من الخير شيء . إلا أنه كان يخالط الناس . وكان موسرا . فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر . قال : قال الله عز وجل : نحن أحق بذلك منه . تجاوزوا عنه)([1]).
ولذلك فإنَّ مخالطة الناس والقيام بشؤونهم، والصبر عليهم، ولو حصل منهم على الشخص نوع من الأذى الذي يلحقه، فإنَّ ذلك خير مِمَّن اعتزلهم كليَّة خشية أذاهم، انطلاقاًَ من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْلِمُ إِذَا كَانَ مُخَالِطًا النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنْ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)([2]).
بيد أنَّه من الجميل لطالب العلم أو الداعية أن يكون له وقت طويل في العام يبتعد فيه عن دنيا الناس مطلقاً إلا لواجب شرعي أو حياتي، ويقضي وقته ذاك خالياً مع ربه ومحاسباً لنفسه، فـ:(لابد للعبد من أوقات يَنْفَرِدُ بِهَا بِنَفْسِهِ فِي دُعَائِهِ وَذِكْرِهِ وَصَلَاتِهِ وَتَفَكُّرِهِ وَمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ وَإِصْلَاحِ قَلْبِهِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَشْارَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ فَهَذِهِ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى انْفِرَادِهِ بِنَفْسِهِ ؛ إمَّا فِي بَيْتِهِ ، كَمَا قَالَ طاوس : نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ يَكُفُّ فِيهَا بَصَرَهُ وَلِسَانَهُ ، وَإِمَّا فِي غَيْرِ بَيْتِهِ .
فَاخْتِيَارُ الْمُخَالَطَةِ مُطْلَقًا خَطَأٌ وَاخْتِيَارُ الِانْفِرَادِ مُطْلَقًا خَطَأٌ . وَأَمَّا مِقْدَارُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْ هَذَا وَهَذَا وَمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ خَاصٍّ كَمَا تَقَدَّمَ )([3]).
يقول الإمام الخطابي رحمه الله : (ولسنا نريد - رحمك الله - بهذه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجمعات، وترك حقوقهم في العبادات، وإفشاء السلام ورد التحيات، وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم، وصنائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم، فإنها مستثناة بشرائطها، جارية على سبيلها، ما لم يحل دونها حائل شغل ولا يمنع عنها مانع عذر)([4]).
إذا تقرَّر ذلك، فإنَّ ترك فضول مخالطة الناس الزائدة عن حدها هو السبيل القويم لإصلاح القلب، وارتقاء الروح، وغذاء العقل، وتزكية النفس.
ولذا حبَّذت شريعة الإسلام الاعتكاف في أواخر رمضان، للمسلمين الصائمين؛ وذلك لكي تحلق الروح مع أجواء الإيمان، وتبتعد النفس عن أحاديث الإنسان، وتنقطع العلائق عن الخلائق للتفرغ لعبادة الخالق، ومع هذا فلقد صرنا نلحظ قلَّة المهتمين بإحياء هذه السنَّة المهجورة من أكثر المسلمين.
ولعل مما يعين على عزلة شرعية ما يلي:
(مناجاة الله تعالى والخلوة معه)
وذلك في كل صباح ومساء وترطيب اللسان بذكره، وليكن لك ورد في قيام الليل ابتغاء وجه ربك وشوق المشتاق لرؤيته... فابتعد عن نظر الناس جميعا في عبادتك حتى من أهلك؛ لكي تستشعر حلاوة المناجاة، ولذَّة التعبد، وبرد اليقين، والطمأنينة بعبادة رب العالمين، وتذكَّر حديث السبعة الذين يُظِلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظل إلا ظله وقد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنّ منهم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)([5]).
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا * سر أرقُّ من النسيم إذا سرى
ولعلَّك تشعر بالأنس بالله، وحلاوة الحديث إليه، والانكباب على طاعته، فلعمر الله لا أجمل ولا أحلى ولا أبهى ولا أرقى من ساعات خلوة تناجي بها رب العباد، وتدع الناس وحالهم في حالهم، وتتمثَّل بأبيات من الشعر قالها أحد الصالحين:
دعوني أناجي مولى جليلاً * إذا الليل أرخى عليَّ السدولا
نظرت إليك بقلب ذليل * لأرجو به يا إلهي القبولا
يقول ابن رجب رحمه الله: (وجدتُ أكثرهم لا يقوى على مخالطة الخلق فهو يفر إلى الخلوة ليستأنس بحبيبه ، ولهذا كان أكثرهم يطيل الوحدة .
وقيل لبعضهم : ألا تستوحش ؟ قال : كيف أستوحش وهو يقول : أنا جليس من ذكرني ؟.
وقال آخر : وهل يستوحش مع الله أحد ؟.
وكان يحيى بن معاذ كثير العزلة والانفراد فعاتبه أخوه فقال له : إن كنت من الناس فلا بد لك من الناس، فقال : يحيى : إن كنت من الناس فلا بد لك من الله).
إنَّ خلوتك مع الله، تعطيك قيمة نفسك، وتشعرك بمدى تقصيرك معه سبحانه وتعالى، فأنت تقبل على الناس ولربما تنسى الإقبال على ربك، وتطلب من الناس وتغفل عن الطلب من إلهك، وتتودد للبشر وقد نسيت التودد لربك(الودود)، وتشتكي للخلق أحوالك فلم يفيدوك وتذهب تلاحق الكثيرين منهم وقد يجفونك، وربك تعالى يناديك ويقول لك: (من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ ومن يستغفرني فأغفر له ؟) ونحن جيمعاً غافلون عن ذلك.
يقول الإمام ابن القيم: (إذ استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله، وإذا فرح الناس بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنس الناس بأحبائهم فأنس أنت بالله، وإذا ذهب الناس إلى ملوكهم وكبرائهم يسألونهم الرزق ويتوددون إليهم فتودد أنت إلى الله).
فما أحرانا أن تكون لنا مجالس نخلو بها مع ربنا تبارك وتعالى ، لمزيد من الحسنات، واستغفاراً لربنا حينما نقترف السيئات، وما أجمل ما قاله مسروق الأجدع رحمه الله: (إن المرء لحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها يتذكرُ ذنوبَه ويستغفر منها).
إنَّ من أكبر أسباب صلاح القلب طاعة الله تعالى في السر، حيث لا يراك إلا هو، فلن يقع في قلبك شيء من الرياء والغرور، بل أنت تتذلل بين يديه، وتنكسر إليه، وتخضع وتلجأ إليه، وتستشعر صلاح قلبك بالخلوة بربك،
كما قال حذيفة المرعشي رحمه الله القائل: (إن أطعت الله في السر أصلح قلبك، شئت أم أبيت)!
كم من شخص يصلي؟!
وكم من رجل يحج ويعتمر ويتصدق وينفق؟!
لكنَّ القليل منهم من يجد في نفسه طعم الافتقار إلى الله، والانكسار بين يديه، مع أنَّنا فقراء إليه.
فالله تعالى يقول:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْـحَمِيدُ) [فاطر: 15]. ونبي الله موسى عليه الصلاة والسلام يعترف بذلك أمام ربه ويقول: (رَبِّ إنِّي لِـمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ" [القصص: 24].
وحينما يربط العبد نفسه بربه عبر هذا الطريق، ويعرف أنَّ طريق الافتقار إليه (حقيقة العبوديَّة ولبّها)، فيتذلل العبد إلى ربه ويتودد، لسان حاله:
يا رب عبدك قد أتاك وقد أساء وقد هفا
يكفيه منك حياؤه من سوء ما قد أسلفا
حمل الذنوب على الذنوب الموبقات وأسرفا
وقد استجار بذيل عفوك من عقابك ملحفا
يا رب فاعف وعافه فلأنت أولى من عفا
يتحدث الإمام ابن قيم الجوزية عن بعض العارفين فيقول: (دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن من الدخول حتى جئت باب الذل والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه، وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا معوق فما أن وضعت قدمي على عتبته فإذا هو سبحانه أخذ بيدي وأدخلني عليه)
[1] أخرجه مسلم / المسند الصحيح / كتاب المساقاة /باب فضل إنذار المعسر / حديث رقم 1561.
[2] أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي – واللفظ له - من حديث
ابن عمر، وحسَّنه ابن حجر، وصحَّحه أحمد شاكر والألباني في السلسلة الصحيحة برقم 939.
[3] "مجموع الفتاوى، لابن تيمية: (10/426)
[4] العزلة للإمام الخطابي : ص11،12.
[5] أخرجه البخاري/ الجامع الصحيح /كتاب المحاربين من
أهل الكفر والردة / باب فضل من ترك الفواحش / حديث رقم6338 .
منـــــــقول
شبكة طـــريق الســلف
No comments:
Post a Comment